على فراش المرض بكوخها الصغير ، خطف الأرق النوم من مقلتيها في ليلة ممطرة ظلماء ، فأخذت كعادتها تئن تارة وتصيح أخرى . تشعر بآلام ضعفت عن مقاومتها . تنتابها بأنحاء عديدة من جسدها . حتى الطبيب مل زياراتها المتعددة شفقة عليها . أخذ يصف لها الدواء قبل فحصها . حفظ عن ظهر قلب صيغ توجعاتها . بدوره تيقن من صعوبة شفائها ، فأخد يكتفي بنصحها بمهدئات تخفف حدة الصداع ، وتساعد على تواري الألم إلى حين . وهل لعاهاتها المزمنة وهي على عتبة العقد التاسع من دواء ؟ تعيش وحيدة بكوخ المرحومين والديها . كثيرا ما كانت أمها تردد مع نفسها وعلى مسامعها : ضيعك والدك ... ظلمك وجار عليك ... كان عنيدا ، أنانيا ... استمرأ أجرك منذ صباك ، بعد أن زج بك خادمة في البيوت . تجاهل مصيرك ومستقبلك . ورفض كل من تقدم لخطبتك ، دون أن يستشيرنا أو يخبرنا . وكلما حاولت كسر وتمزيق السياج الذي طوقك به ، خاصمني وبالغ في تعنيفي ... وما هدأ ولا اطمأن حتى عتا السن على رشاقتك ، وعصفت الصروف بنظارتك .نسيت آلامها ، وتسلل إلى ذهنها شريط الذكريات ، فتذكرت شقيقها الذي عاش بينهم مدللا تنفق عليه الأسرة مماكانت تدره خادمة البيوت من عرق جبينها ، رغم أنفها وعلى حساب حرمانها وحرمان كل من بالبيت من أبسط مشتهيات النفس من مأكل وملبس وإيواء .أكمل الفتى دراسته ، وانخرط في أسلاك الوظيفة مع الدولة . وقبل وفاة والده انقطع خبره مع نبا زواجه ثم انتقاله إلى حيث لا يدرون .تناولت جرعات من دوائها . وجذبت زفرات نفس عميقة ورددت : ليتني تعلمت بدوري القراءة والكتابة ، لكنت الآن - على الأقل - قادرة على أداء فروضي الدينية بأكملها .استلت عصاها من تحت سريرها وتوكأت وخطت نحو الماء . صبته على وجهها ورجليها وتذكرت أن الحاجة أم إحدى مشغلاتها كانت عند الوضوء تردد كلمات غير مسموعة ، فما هي ياترى ؟ تجاوزتها وقامت إلى الصلاة تؤدي الحركات على غير هدى .متأكدة أن أداءها مجرد عمل شبيه بالوضوء والصلاة . ولكنها توطن نفسها وتتعود ، ريثما تلتقي من يصحح لها طريقة أداء واجباتها الدينية . لم يخطر ببال أبيها أنه يؤسس بتصرفه لتشريد ذريته من بعده ، وضياع ابنه وابنته . ابنته الضحية التي أفنت زهرة شبابها في توفير لقمة العيش ، ووضعها في أفواه من لا يستحقها .كما لم ينتبه أحد من مشغليها إلى تعليمها ، وتلقينها مبادئ القيم الدينية وتعويدها على أداء فروضه .بعد فتور حدة أوجاعها ، غلقت منافذ الكوخ وفنائه ، وآوت إلى فراشها راغبة في الدفء والهدوء . أخذتها سنة فرأت أنها في أبهى حلة تزف رويدا إلى مائدة ضخمة تضم ما لذ وطاب من الأطعمة والأشربة والفواكه .فرغت فاها ومدت يدها واستعدت . إلا أنها تجرعت ما كانت تتوقعه وتخشاه ...